الشريعة و الحياةهموم الناس

مسجد لحواش بأبي تلميت:ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون “خطبة الجمعة”

أما بعد، عباد الله:

المؤمن مهما تفاقم الشرّ، واشتد الخطر والضرّ، فإنه يعلم أن ما قُضِي كائن، وما قُدِّر واجب، وما سُطِّر منتظَر، ومهما يشأِ الله يكن، وما يحكم به الله يحقّ، لا رافع لما وضع، ولا واضع لما رفع، ولا مانع لما أعطى، ولا معطيَ لما منع، وما شاء ربُّنا صنع، فلا جزعَ ولا هلع، وإنما صبرٌ ومصابرة، وتفاؤل بأنَّ النصرَ والظفرَ لأهل الإسلام والإيمان، والذلَّ والصَّغارَ والخسارَ لأهل الظلم والعدوان والطغيان، (وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ).

عباد الله: تمر أمتكم بأيام عصيبة، وأوقات شديدة، وتداعيات أحداث عاصفة، ومستجدات قاصفة، أطبقت غيومها، وانتشرت في الآفاق سمومها، حروب مضطرمة، وصراعات محتدمة، أثار أعداء الإسلام نقعها، واقتدحوا نارها، واستفتحوا بابها، ولو علموا ما يعقب البغي قصروا، ولكنهم لم يفكروا في العواقب.

أقدار مورودة، وأقضية مسطورة، لا يقابل أمره سبحانه وتعالى إلا بالرضا، والصبر على ما قضى، ولا يقابل البلاء الجسيم، إلا بالإيمان والتسليم.

ها هم يمارسون في غزة أبشع صورِ الظلم والقهر والإرهاب، ويشنون بلا رحمة حربَ إبادةٍ واستئصال، وها هي غزة تمسي وتصبح تحت مرارة الفادحة، وألمِ الفاجعة، وصورِ المأساة، ومشاهد المعاناة، وصرخات الصغار، وصيحات التعذيب والحصار، ولوعات الثكلى، وآهات اليتامى، تصبح وتمسي على صفوف الأكفان المتتالية، والجنائزِ المحملة، والبيوت المهدمة، والمساجد والمصاحف المحرقة، والمشافي والمدارس المخربة.. قتل وحصار، وتجويع وتشريد، وانتهاك للأعراض، وغطرسة وغرور، واستبداد وفجور، غيٌّ وبغي، وتسلّط وتمرّد، ورؤًى خاصَّة يقرّرها صاحبُ القوّة وفق عقيدته ومصلحته، أحداث تنادي المسلمين وتستنفرهم، تستصرخهم وتستنصرهم، فهل من مجيب لهذا النداء؟

لقد بلغ السيل زُباه، والكيدُ مداه، والظلمُ منتهاه، والظلم لا يدوم ولا يطول، وسيَضمحلّ ويزول، والدهر ذو صَرفٍ يدور، وسيعلم الظالمون عاقبة الغرور. أين الذين التحفوا بالأمن والدَّعَة، واستمتعوا بالثروة والسَّعة، من الأمم الظالمة الغابرة الظاهرة القاهرة؟! لقد نزلت بهم الفواجع، وحلّت بهم الصواعق والقوارع، فهل تعي لهم حِسًّا، أو تسمَعُ لهم ركزاً؟! عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌لَيُمْلِي ‌لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ). قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) متفق عليه.

فمهما بلغت قوّةُ الظلوم، وضَعفُ المظلوم، فإنَّ الظالم مقهور مخذول، مصفّد مغلول، وأقربُ الأشياء صرعةُ الظلوم، وأنفذُ السهام دعوةُ المظلوم، يرفعها الحيّ القيوم فوق الغُيوم، يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم : (‌ثَلَاثَةٌ ‌لَا ‌تُرَدُّ ‌دَعْوَتُهُمْ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عز وجل: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ “) أخرجه أحمد.

فسبحان من سمع أنينَ المضطهدِ المهموم، وسمع نداءَ المكروب المغموم، فرفع للمظلوم مكانا، ودمَغ الظالمَ فعاد بعد العزّ مهانا.

عباد الله: وإن للظلم ألوانا وصورا تربو على الحصْر، غير أن أبشعَ أنواعِ الظلم وأقبحَ صورِه وأشدَّها نكراً وأعظمَها خطراً البغيُ في الأرض بغير الحق، والاستطالةُ على الخلق، في دينهم أو أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم أو عقولهم، بمختلَف سبل العدوان، التي يتفق أولو الألباب على استعظامها، والنُّفرةِ منها، والحذرِ من التردي في وهدتها، والتلوثِ بأرجاسها.

كما توعد سبحانه كلَّ من سلك سبيل البغيِ بأليم العذاب فقال تعالى: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [.

فعلى الباغي تدور الدوائر مهما تجبر واستكبر، وغرته قوتُه، وأسكرته صولتُه، وإن هذه السنةَ الربانيةَ عامةٌ شاملةٌ، لا يشذ عنها أيُّ ظالم مهما كانت قوته.

وإن الظالمَ سيظلّ محاطاً بكلِّ مشاعر الكراهية والعداء والحقد والبغضاء، لا يعيش في أمان، ولا ينعَم بسلام، حياتُه في قلق، وعيشه في أخطار وأرق.

*** الخطبة الثانية: أما بعد، عباد الله:

قد يُنعم الله على المجرم الباغي نِعمَ نَفْع أو نعمَ دَفْعٍ أو نعَم رفْع، ولكنه إنعامٌ وإعطاء ما هو إلا استدراج وإمهال وإملاء، يقول سبحانه: (وَلاَ يَحْسبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ)، ويقول تعالى: (وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)، ويقول عز وجل: (أَيَحْسِبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى ٱلْخَيْرٰتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ).

إنه إغناءٌ مشوبٌ بالمصائب والأرزاء، منغَّص بالأمراض واللأواء، مكدَّر بالخوف والرعب وعدمِ الهناء، يقول تعالى: (وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ وَعْدُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ)، ويقول سبحانه: (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ).

لا يغرّنَك ما هم فيه من الاستعداد والإمداد، لا يغرنَّك ما هم فيه من التعالي والاستبداد، لا يغرنَّك ما يملكون من القوة والعُدّة والعَتاد، (مَتَـٰعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ)، ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ).

عباد الله: إن الواجب على أهل الإسلام -كلما اشتدت بهم البلايا والرزايا- أن يقوى تظافرهم، ويشتدّ تناصرهم لنصرة دينهم، وحماية بلادهم ومقدساتهم، وأن يكونوا صفا واحدا، متعاونين على البر والتقوى، متناهين عن الإثم والعدوان، نابذين للعداوة والبغضاء، حتى يفوِّتوا على العدو فرصتَه وبُغيتَه في زرع بذور التمزق، وجذور التفرق، يقول سبحانه وتعالى: ( وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: « ‌إِنَّ ‌اللهَ ‌يَرْضَى ‌لَكُمْ ‌ثَلَاثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا؛ فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ.»)، أخرجه مسلم.

الدعاء غاية كلِّ مكلوم، وسلاح كلِّ مظلوم، وراحة كلِّ مهموم، وليس لنا إذا أحاطت الحتوف، ونزل الأمرُ المخوف، واشتد الكرب، وعظم الخطب، إلا الله -جل في علاه- وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يدعو عند الكرب بهذه الدعوات: ( لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، ‌لَا ‌إِلَهَ ‌إِلَّا ‌اللَّهُ ‌رَبُّ ‌الْعَرْشِ ‌الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السماوات، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ “، و” حسبنا الله ونعم الوكيل” قالها إبراهيم – عليه السلام – حين ألقي في النار، وقالها نبينا وسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قالوا:” إن الناس جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل “.

فارفعوا أكف الضراعة، وتوسلوا إلى الله بألوان الطاعة، أن ينصر إخوانكم في غزة، ادعوا دعاء الغريق في الدجى، ادعوا وأنتم صادقون في الدعاء، موقنون بالإجابة:

اللَّهُمَّ إنا نشْكُو إِلَيْكَ ‌ضَعْفَ ‌قُوَّتِنا، وَقِلَّةَ حِيلَتِنا، وَهَوَانِنا عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبُّنا، إِلَى مَنْ تَكِلُنا؟ إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنا، أَوْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرَنا، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَينا فَلَا نُبالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لنا، نعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَنْ يَحِلَّ عَلَينا غَضَبُكَ أَوْ أَنْ يَنْزِلَ بِنا سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ.

اللهم انقطع الرجاء إلا منك، وخابت الظنون إلا فيك، وضعف الاعتماد إلا عليك، اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم انصرهم في غزة.

اللهم إنهم حُفاةٌ فاحمِلْهم، اللهم إنهم عُراةٌ فاكْسُهُم، اللهم إنهم جِياعٌ فأَشْبِعْهُم، اللهم كن لهم ناصرا ومعينا ومؤيدا وظهيرا، اللهم اشف مرضاهم، وداو جرحاهم، وفك أسراهم، واجبر كسرهم، وتقبل شهداءهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا متين.

اللهم اكشف عنهم وعن المسلمين كل بلاء، وادفع عنهم وعن المسلمين كل بأساء، واحفظ منهم ومن المسلمين الأعراض والدماء، واجعل لهم من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا.

اللهم سدد رميهم، وشد أزرهم، ووحد صفوفهم، وألف بين قلوبهم، وقوِّ ظهرهم، وثبت أقدامهم، واجعل لهم من لدنك سلطاناً نصيراً.

اللهم إن أعداءنا وأعداءهم قد طغوا وبغوا وقتلوا وأسرفوا واعتدوا، اللهم فل جيوشهم، ودك عروشهم، واقتلهم بسلاحهم، وأحرقهم بنارهم، وسلط عليهم جندا من جندك يا قوي يا عزيز.

اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، وألقب الرعب في قلوبهم، واجعلهم عبرة للمعتبرين يا رب العالمين، اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تحقق لهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية يا رب العالمين.

إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي

مسجد لحواش بأبي تلميت
إسحاق بن موسى بن الشيخ سيدي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى